}); أوكا بوست | كبير اساقفة الإمبراطورية الرومانية - الجزء الثاني - ukapost

آخر المواضيع

أوكا بوست | كبير اساقفة الإمبراطورية الرومانية - الجزء الثاني


فسأل هرقل التجار العرب: أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقر بهم نسبا إليه (فالأمويين هم أبناء عمومة الهاشميين) فقال هرقل: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره (أي اجعلوا أبا سفيان واقفا ووراءه مجموعة من أصحابه)، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل -يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه! واتضح بصورة لا شك فيها أن هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، لذلك سأل أقرب الناس إليه نسبًا، ليكون على معرفة تامة به، وفي نفس الوقت جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكام على صدقه، وعند ذلك سيخاف أبو سفيان أن يكذب، ومن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا، ولكن عامل الكذب هذا لم يكن واردًا في خاطر أبي سفيان على الإطلاق، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول، وأبو سفيان في هذه اللحظة التي لم يسلم فيها بعد، مع أنه يكره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كراهية شديدة، ومتأكد من أن أصحابه لن يكذبوه أمام القيصر مهما قال، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يحب أن يشوه صورته بالكذب لدرجة أنه في رواية كان يقول: "ولكني كنت امرأ أتكرم على الكذب، لا أكذب". وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان من أجل أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب، ودار حوار عجيب بين (هرقل إمبراطور الروم) و (أبي سفيان سيد مكة) حول (محمد رسول اللَّه)، وقد بدأ هرقل بالسؤال: كيف نسبه فيكم؟

قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.
قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قط قبله؟ (أي هل ادعى أحد من العرب النبوة من قبله؟)
قال أبو سفيان: لا لم يدع أحد في تاريخ العرب النبوة.
فقال هرقل: هل كان من آبائه من ملك؟
فقال أبو سفيان: لا.
قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟
قال أبو سفيان: بل يزيدون.
قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قال أبو سفيان: لا، لا يرتد منهم أحد.
قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قال أبو سفيان: لا. (وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعى بالصادق الأمين قبل الإسلام)
قال هرقل: فهل يغدر؟
قال أبو سفيان: لا. ثم قال: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟
قال أبو سفيان: نعم.
فقال هرقل فكيف كان قتالكم إياه؟
قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال. أي ينال منا وننال منه (يقصد معركتي بدر وأحد).
قال هرقل: بماذا يأمركم؟

قال أبو سفيان: يقول اعبدوا اللَّه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
 عند ذلك انتهى الاستجواب الطويل من هرقل، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج، وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل، قال هرقل:

سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. ثم قال: سألتك إن قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على اللَّه. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه. وهم أتباع الرسل.
وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيضا أيرتد أحد منهم سخطا لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.

وبعد هذا التحليل العميق من هرقل قال لأبي سفيان بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين -أي الشام- وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم - (فهو يستكثر أن يكون من العرب!) - فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم قال هرقل لدحية بن خليفة: ويحك! واللَّه إني لأعلم أن صاحبك نبيٌ مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي؛ ولولا ذلك لأتبعته؛ فاذهب إلى صغاطر الأسقف فاذكر لهم أمر صاحبكم، فهو واللَّه أعظم في الروم مني، وأجوز قولا عندهم مني؛ فانظر ما يقول لك.

فذهب دحية إلى صغاطر كبير الأساقفة، فأخبره بما جاء به من رسول اللَّه إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر: صاحبك واللَّه نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا باسمه. فدخل البطل صغاطر فألقى ثيابًا كانت عليه سودًا، ولبس ثيابا بيضاء، ثم أخذ عصاه، يتوكأ بها وهالة من النور تحيط بوجهه المشرق بالإيمان، فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال بصوتٍ عالٍ: يا معشر الروم! إنه قد جاءنا كتابٌ من أحمد، يدعونا فيه إلى اللَّه عز وجل، وإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن أحمد عبده ورسوله. فما إن فرغ البطل صغاطر من قولته تلك حتى وثب عليه من كانوا يسجدون له من قبل وثبة رجل واحد، فضربوه حتى تحولت ثيابه البيضاء إلى حمراء من كثرة الدماء التي تدفقت كشلالٍ متفجرٍ من جبينه وهو ينادي بصوتٍ أنهكه الضرب:

أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن أحمدًا رسول اللَّه

وظل هذا البطل الإسلامي العظيم يرددها حتى فاضت روحه إلى بارئها، فرحم اللَّه البطل صغاطر، وأسكنه اللَّه فسيح جناته، وحشره مع حبيبه أحمد الذي آمن به من دون أن يراه.

ليست هناك تعليقات