}); أوكا بوست | المحارب الثالث عشر - ukapost

آخر المواضيع

أوكا بوست | المحارب الثالث عشر


قصة بطلنا عندما قاد عالم إسلامي جليل اسمه الشيخ (أحمد بن فضلان) بعثة دعوية خرجت من "بغداد" -عاصمة النور آنذاك- بتكليف من الخليفة العباسي (المقتدر باللَّه) رحمه اللَّه إلى قلب القارة الآسيوية تلبية لطلب ملك الصقالبة البلغار (ألمش بن يلطوار) الذي طلب التعريف بالدين الإسلامي، عله يجد تفسيرًا للغز الكبير المثار وقتها ألا وهو "كيف استطاع هذا الدين الآتي من قلب الصحراء أن يكوّن تلك الإمبراطورية الضخمة التي لم تضاهها أي إمبراطورية في تاريخ الأرض؟ "

فقد توغل أبن فضلان في بلاد الروس حتى وجد أناسًا من "الفايكنج" وهي القبائل التي تسكن السويد والنرويج والدنمارك وإيسلندا، ولنترك ابن فضلان نفسه الذي جاء من بغداد رمز الحضارة الإسلامية يصف لنا ما شاهده بأم عينه:
"كان أعظم ما يعلمه أولئك القوم من الحلي هو الخرز الأخضر! يشترون الخرزة بدرهم، وينظمونه عقودًا لنسائهم. وهم أقذر خلق اللَّه لا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيُرسون سفنهم بإتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من الخشب. ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه. وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه، وشعر رأسه فيغسله ويسرّحه بالمشط في القصعة، ثم يتمخط ويبصق فيها، ولا يدع شيئًا من القذر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت.

وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها. وساعة توافي سفنهم إلى هذا المرسى يخرج كل واحد منهم ومعه خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ، حتى يوافي خشبة طويلة منصوبة، لها وجه يشبه وجه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الصور خشب طوال قد نصبت في الأرض، فيوافي إلى الصورة الكبيرة ويسجد لها، ثم يترك الذي معه بين يدي الخشبة -ويقول لها: "يا ربي! أريد أن ترزقني تاجرًا معه دنانير ودراهم كثيرة فيشتري مني كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول"؛ ثم ينصرف. فإذا تعسر عليه بيعه وطالت أيامه، عاد بهدية ثانية وثالثة، فإنْ تعذر ما يريد، حمل إلى كل صورة من تلك الصور الصغار هديةً، وسألها الشفاعة، وقال: "هؤلاء نساء ربنا وبناته وبنوه"، لا يزال يطلب إلى صورة صورة يسألها، ويستشفع بها ويتضرع بين يديها، فربما تسهّل له البيع فباع، فيقول: "قد قضي ربي حاجتي، وأحتاج أن أكافيه". فيعمد إلى عدة من الغنم أو البقر فيقتلها ويتصدق ببعض اللحم، ويحمل الباقي فيطرحه بين يدي تلك الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها.

ويعلق رؤوس البقر أو الغنم على ذلك الخشب المنصوب في الأرض. فإذا كان الليل وافت الكلاب فأكلت جميع ذلك، فيقول الذي فعله: "قد رضي ربي عني وأكل هديّتي! " وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحيةً عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئًا من الخبز والماء، ولا يقربونه ولا يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفًا أو مملوكًا. فإن برئ وقام رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، فإن كان مملوكًا تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير. وكان يقال لي إنهم يفعلون برؤسائهم عند الموت أمورًا أقلها الحرق. فكنت أحب أن أقف على ذلك، حتى بلغني موتُ رجل منهم جليل، فجعلوه في قبره، وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه وخياطتها. وذلك أن الرجل الفقير منهم يعملون له سفينة صغيرة، ويجعلونه فيها ويحرقونها. والغني يجمعون ماله، ويجعلونه ثلاثة أثلاث. فثلث لأهله، وثلث يقطعون له به ثيابًا، وثلث ينبذون به نبيذًا يشربونه يوم تقتل جاريتُه نفسها، وتُحرَق مع مولاها.

وهم مستهترون بالنبيذ يشربونه ليلًا ونهارًا، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده. عندما يموت رجل جليل منهم، أو أحد رؤسائهم يقومون بوضعه في قبره ويقفلون عليه القبر لمدة عشرة أيام، حتى يفرغوا من تفصيل وحياكة الملابس اللازمة لهذه المراسم، مراسم حرق الميت، ومن ضمن هذه المراسم أن تحرق معه إحدى جواريه، فسأل سائل: من منكن يموت معه؟ فوافقت إحداهن طائعة راضية بمحض إرادتها، فهذا حسب معتقداتهم شرف لها، ومن لحظة موافقتها، تسهر بقية الجواري علي خدمتها، لدرجة أنهن يغسلن رجليها بأيديهن وهم يستعدون لتفصيل وحياكة الملابس اللازمة للحرق والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة. ولما كان اليوم الذي سيحرق فيه الميت وجاريته، قامت الاستعدادات لذلك أمام النهر الذي ترسو فيه سفينته، التي يجري إعدادها بشكل فائق الجودة والبذخ بما فيه السرير الذي سوف يمدد عليه الرجل المتوفى، وتشارك في هذه المراسم، امرأة عجوز شمطاء، تسمي عندهم (ملك الموت) وهي التي تتولي قتل الجارية التي وافقت علي الموت مع سيدها وفي اللحظة المحددة يخرجون الميت من قبره، ويلبسونه سراويل جديدة، ويضعونه في الخيمة التي علي السفينة، ويجلسونه وقد اسندوه بالمساند،

ووضعوا أمامه الفاكهة والريحان والنبيذ والخبز واللحم والبصل، ثم يقطعون كلبًا إلى نصفين ويلقونه في السفينة، ويضعون جنب المتوفى جميع سلاحه، ثم يجيئون بفرسين يذبحونهما بعد الغرق ويقطعون لحمهم بالسيف ويلقونه بالسفينة، ثم يفعلون الشيء ذاته ببقرتين وديكا ودجاجة، وأثناء ذلك تقوم الجارية التي سوف تحرق معه بالمرور داخل الخيم المنصوبة علي شاطئ النهر أمام السفينة، فينكحها كل صاحب خيمة ويقول لها: سلّمي على مولاكِ وقولي له إنما فعلت هذا حبًا به! وبعد حركات متعددة تقوم الجارية أمام الحضور مع العجوز (ملك الموت) لتصعد إلي السفينة، فتشرب النبيذ، قدحًا بعد قدحٍ، وملك الموت تقتلها بخنجر عريض النصل، والرجال يضربون بالخشب علي التراس، لئلا يسمع صوت صراخها، فتجزع بقية الجواري، فلا يوافقن بعد ذلك علي الموت مع أسيادهن، ثم يتم حرق السفينة بكل ما فيها: الرجل السيد المتوفى وجاريته المتوفاة، وكل الأشياء والحاجات التي تم جمعها في السفينة، في أثناء تلك المراسم العجائبية".

وبعد هذه المناظر الهمجية التي رآها ابن فضلان في مغامرته، صلى للَّه ركعتين شكرًا للَّه على نعمة الإسلام، وقرر الرجوع إلى البلاد الإسلامية وترك أولئك الهمجيين، واعتقد ابن فضلان أنه بعد مشاركته في مراسم الميت ودفنه، سوف يسمح له بالمغادرة، لكن ظنه خاب، فقد بدأ الصراع الداخلي بين زعماء أهل الشمال لخلافة الزعيم المتوفى، وانحصر الصراع بين زعيمين منهم. وكان كل واحد يحشد لمناصرته الأعيان وذوي النفوذ، ووإن أحدهما ويدعى (توركيل) يتطلع لمساندته ضد الآخر ويدعى (بولييف) في صراعهما علي الزعامة، خاصة أنه (توركيل)، كان طيلة الوقت يعتقد أن ابن فضلان مشعوذ وساحر يتمتع بقوة معينة، بسبب قراءته للقرآن وقيامه الليل، لذلك سمع ابن فضلان نصيحة الترجمان، وقرر البقاء وعدم اللجوء للهرب، لأنه سيعامل في حالة إكتشاف أمره كلص، حيث يقوده الناس إلي شجرة ضخمة، ويوثقون حبلا قويا حوله ويشنقونه ثم يتركونه معلقا حتى يبلي جسمه ويتناثر إربًا إربًا بفعل الريح والمطر. ثم حدثت مفاجأة غيرت من مجري الصراع على الزعامة، فقد وصل رسول من بلاد الشمال البعيدة "السويد" من قبيلة بولييف ليخبره أن هناك أخطارا جمة تحيق ببلاده البعيدة وأنه علي بولييف الاستعداد للعودة إلي بلاده لإنقاذها من هذه الأخطار، فقام بولييف باستدعاء العجوز الشمطاء (ملك الموت) فقامت ببعض حركات الشعوذة لتخبر بعدها بولييف أنه دُعي من قبل الآلهة لترك هذا المكان بسرعة، وأن ينصرف كبطل لصد ما يهدد بلاد الشمال من الخطر، وأخبرته أيضًا أن فريقه كاملا يجب أن يكون مؤلفًا من ثلاثة عشر محاربًا أحدهم من غير أهل الشمال، لذلك كان الثالث عشر غير الشمالي هو أحمد بن فضلان، ومنذ تلك اللحظة حمل صفة المحارب الثالث عشر، رغم كل الاعتذارات والتبريرات التي قدمها لاستثنائه من تلك المهمة، لذلك كانت هذه الحالة الإجبارية كارثة حقيقية لابن فضلان، مما حدا به للقول: "بالنسبة لشخصي اعتبرت حالي كحال الشخص الميت".


لتبدأ بذلك مغامرة جديدة لا يتسع كل كتابي هذا لذكرها، فقد كان الهدف الذي أردته هو تنبيه الأمة بتاريخها المنسي، أما من أراد متابعة مغامرات ابن فضلان فعليه أن يقرأ رسالته الشهيرة، على أن يحذر من التشويه العظيم الذي وضعه المستشرقون فيها من طعونات في شرف هذا الداعية الإسلامي العظيم!

ليست هناك تعليقات